فصل: تفسير الآيات رقم (79- 82)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

لتفريع الكلام على الكلام فجملة الشرط وجوابه مفرعتان على الجملتين السابقتين، ولما كان توليهم عن دعوته قد وقع واستمر تعين أن جعل التولي في جملة الشرط مرادٌ به ما كان حصل ليرتب عليه جواب الشرط الذي هو شيء قد وقع أيضاً‏.‏ وإنما قُصد إقرارهم به قطعاً لتعللاتهم واستقصاء لقطع معاذيرهم‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن كنتم قد توليتم فقد علمتُم أني ما سألتكم أجراً فتتهموني برغبة في نفع ينجر لي من دعوتكم حتى تعرضوا عنها شُحَّا بأموالكم أو اتهاماً بتكذيبي، وهذا إلزام لهم بأن توليهم لم يكن فيه احتمال تهمتهم إياه بتطلب نفع لنفسه‏.‏ وبذلك برّأ نفسه من أن يكون سبباً لتولّيهم، وبهذا تعين أن المعلق بهذا الشرط هو التحقق بين مضمون جملة الشرط وجملة الجزاء لا وقوعُ جملة الجزاء عند وقوع جملة الشرط‏.‏ وذلك مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنت قلته فقد علِمتَه‏}‏ في آخر سورة ‏[‏العقود‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ إن أجري إلا على الله‏}‏ تعميم لنفي تطلبه أجراً على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم، فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة‏:‏ ‏{‏فما سألتكم من أجر‏}‏ مع زيادة التعميم‏.‏ وطريقُ جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه‏.‏

وأتى بحرف ‏(‏على‏)‏ المفيد لكونه حقاً له عند الله بناء على وعد الله إيَّاه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده، فصار بالوعد حقاً على الله التزم الله به‏.‏

والأجر‏:‏ العوض الذي يعطى لأجل عمل يعمله آخذ العوض‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏ معطوفة على جملة الجواب، والتقدير فإن توليتم فأمرت أن أكون من المسلمين، أي أمرني الله أن أتبع الدين الحق ولو كنت وحدي‏.‏ وهذا تأييس لهم بأن إجماعهم على التولي عنه لا يفل حده ولا يصده عن مخالفة دينهم الضلال‏.‏

وبُني فعل ‏{‏أمرت‏}‏ للمجهول في اللفظ للعلم به، إذ من المعلوم من سياق الكلام أنّ الذي أمره هو الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن أكون من المسلمين‏}‏ أي من الفئة التي يصدق عليها هذا الوصف وهو الإسلام، أي توحيد الله دون عبادة شريك، لأنه مشتق من إسلام العبادة وتخليصها لله تعالى دون غيره‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعنِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقد سمي التوحيد ودين الحق الخالص إسلاماً في مختلف العصور وسمَّى الله به سُنن الرسل فحكاه عن نوح عليه السلام هنا وعن إبراهيم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏، وعن إسماعيل

‏{‏ربنا واجعلنا مُسْلِمَين لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏، ويعقوب وبنيه إذ حكى عنهم ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، وعن يوسف ‏{‏توفني مسلماً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وعن موسى ‏{‏وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 8‏]‏، وعن سليمان ‏{‏أن لا تعلوا علي واتوني مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏، وعن عيسى والحواريين ‏{‏قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك مفصلاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن أكون من المسلمين‏}‏ أقوى في الدلالة على الاتصاف بالإسلام من‏:‏ أن أكون مسلماً، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 119‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع الذكري، أي تفريع ذكر هذه الجمل على ذكر الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لِما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 72‏]‏، وإلا فإن تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ الخ، لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته‏.‏

ولك أن تجعل معنى فعل ‏{‏كذبوه‏}‏ الاستمرار على تكذيبه مثل فِعل ‏{‏آمنوا‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏، فتكون الفاء لتفريع حصول ما بعدها على حصول ما قبلها‏.‏

وأما الفاء التي في جملة‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ فهي للترتيب والتعقيب، لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح عليه السلام ومَن اتبعه‏.‏ وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمناً بقوله‏:‏ ‏{‏إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ الآية، فكان كرد العجز على الصدر‏.‏ ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم، فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له، وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلةَ نوح الأخيرة قومَه المنتهية بقوله‏:‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏ فكان تفنناً بديعاً في النظم مع إيجاز بهيج‏.‏

وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه، ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة‏.‏

والفلك‏:‏ السفينة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏

والخلائف‏:‏ جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة‏.‏

وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله‏:‏ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق، وأنه التكذيب بآيات الله إنذاراً للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله‏:‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏}‏، أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار‏.‏

والنظر‏:‏ هنا نظر عين، نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد‏.‏

والخطاب ب ‏{‏انظر‏}‏ يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم فخصّ بالخطاب تعظيماً لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تَلقوهم بمثل ما تلقَّى به نوحاً قومه أعجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر‏.‏ وليست ‏(‏ثم‏)‏ لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏‏.‏

وقد أُبهم الرسل في هذه الآية‏.‏ ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم‏:‏ هود وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب‏.‏ وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وفي الآية إشارة إلى أن نوحاً أول الرسل‏.‏

والبينات‏:‏ هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق‏.‏ والفاءُ للتعقيب، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم‏.‏ والباء للملابسة، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات‏.‏

وقد قوبل جمع الرسل بجمع ‏(‏البينات‏)‏ فكان صادقاً ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين، فقد يكون لكل نبيء من الأنبياء آيات كثيرة، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ للتفريع، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا‏.‏

وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء‏.‏ حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به، أي لم يتزحزحوا عنه‏.‏ ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة‏.‏

ودل قوله‏:‏ ‏{‏بما كذبوا به من قبل‏}‏ أن هنالك تكذيباً بادروا به لرسلهم، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل، لأن التكذيب إنما يكون لخبرِ مخبر فقوله‏:‏ ‏{‏فجاءهم بالبينات‏}‏ مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل‏.‏ وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة‏.‏ وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل‏}‏ وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما من شأنه أن يقلعه كان تكذيباً واحداً منسياً‏.‏ وهذا من بلاغة معاني القرآن‏.‏

وبذلك يظهر وقع قوله عقبه ‏{‏كذلك نطبع على قلوب المعتدين‏}‏ فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم‏.‏

وقد جُعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلاً لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله‏:‏ ‏{‏كذلك نطبع على قلوب المعتدين‏}‏، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به‏.‏

والطبع‏:‏ الختم‏.‏ وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏.‏

‏(‏والاعتداء‏:‏ افتعال من عدا عليه، إذا ظلمه، فالمعتدين مرادف الظالمين، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء، فإنهم كذبوا الرسل فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏ فهذا التَّحالف للتفنّن في حكاية هذه العبرة في الموضعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأنّ بعثة موسى وهارون عليهما السلام كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، وخصَّت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت إنقلاباً عظيماً وتطوراً جديداً في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقليَّة والتشريعيَّة فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلَّة، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة، وتهذيب النفوس، وإبطال ما عظم من مفاسدَ في المعاملات، ولم تكن شرائع شاملة لِجميع ما يُحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها‏.‏

فأمَّا بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمَّة، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها، وتكوين وطن مستقل لها، وتأسيس قواعد استقلالها، وتأسيس جامعة كاملة لها، ووضع نظام سياسة الأمَّة، ووضع ساسة يدبرون شؤونها، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من الأمم، ويمكِّنها من اقتحام أوطان أمم أخرى، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها، فبعثة موسى كانت أوّل مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم، وهو مع تفوّقه على جميع ما تقدّمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطَّلع على حقائق الأمور، المريد إقرار الصَّالح وإزالة الفاسد‏.‏

وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إنّ الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيِّداً ومُعرباً عن مقاصد موسى فكان بذلك مأموراً من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة، وقد بينته سورة القصص، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فَبُعِثَ معيناً له وناصراً، لأنّ تلك الرّسالة كانت أوّل رسالة يصحبها تكوين أمة‏.‏

وفرعون مَلك مصر، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، وعلى صفة إرسال موسى إلى فرعون وملئه، وفرعون هذا هو منفطاح الثاني أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة من الأسر التي ملكت بلاد القبط‏.‏ والمرَاد بالملأ خاصَّةُ الناس وسادتُهم وذلك أنّ موسى بعث إلى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل‏.‏

والسِّين والتَّاء في استكبروا‏}‏ للمبالغة في التكبّر، والمراد أنَّهم تكبَّروا عن تلقي الدعوة من موسى، لأنَّهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولاً من الله وهو من قوم مستعبَدين استعبدهم فرعون وقومه، وهذا وجه اختيار التَّعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا‏:‏ ‏{‏أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وتفريع ‏{‏استكبروا‏}‏ على جملة ‏{‏بعثنا‏}‏ يدلُّ على أنّ كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبَار‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وكانوا قوماً مجرمين‏}‏ في موضع الحال، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخُلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم‏.‏

والإجرام‏:‏ فعل الجُرم، وهو الجناية والذّنْب العظيم‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المجرمين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقد كان الفراعنة طُغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور، وكانوا يستعبدون الغرباء، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم قروناً فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم، كما حكى الله عنهم ‏{‏إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏، وكان القبط يعتقدون أوهاماً ضالة وخرافات، فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا قوماً مجرمين‏}‏، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرّشاد، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون ‏{‏إنّ هذان لَساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 63‏]‏ فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى‏.‏

وعبر ب ‏{‏قوماً مجرمين‏}‏ دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات، وعلموا أن موسى صادق فيما ادّعاه، تدرجوا من مجرّد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية‏.‏

والحقُّ‏:‏ يطلق اسماً على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح، ويطلق وصفاً على الثابت الذي لا ريبة فيه، كما يقال‏:‏ أنت الصديق الحق‏.‏ ويُلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به‏.‏ والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازاً لهم لقوله قبله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏ فكان جعل الحق جائياً بتلك الآيات صالحاً لمعنيي الحقّ، لأنّ تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقاً فمجيئها حصولُها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائياً معها، فمجيئه ثبوته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ وبهذا يظهر أن لكلمة ‏{‏الحقّ‏}‏ هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد، ولكلمة ‏{‏من عندنا‏}‏ ما ليس لغيرهما في الإيجاز، وهذا من حدّ الإعجاز‏.‏

وبهذا تبين أنّ الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأنّ المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق‏.‏

واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي قهرته الحجة وبهره سلطان الحقّ، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محكّ النقد‏.‏

«ولا بدّ للمغلوب من بارد العذر»

وإذ قد اشتهر بين الدّهماء من ذوي الأوهام أنّ السحر يظهر الشيء في صورة ضدّه، ادّعى هؤلاء أنّ ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحقّ بتخييل السحر‏.‏

ومعنى إدّعاء الحقّ سحراً أنّ دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين، وقد حملهم استشعارهم وَهَنَ معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبّت صاحبُه فأكَّدوا الكلام بما دلّ عليه حرف التوكيد ولام الابتداء ‏{‏إنّ هذا لسحرٌ‏}‏، وزادوا ذلك ترويجاً بأن وصفوا السِّحر بكونه مُبيناً، أي شديدَ الوضوح‏.‏ والمبين اسم فاعل من أبان القاصر، مرادف بَانَ‏:‏ ظهر‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ هذا‏}‏ إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء، أي أنّ هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قال موسى‏}‏ مجاوبة منه عن كلامهم ففُصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة، إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، ونظائره الكثيرة‏.‏ تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة، ولأن المعجزات ظهرت على يديه‏.‏

واستفهام ‏{‏أتقولون‏}‏ إنكاري‏.‏ واللام في ‏{‏للحق‏}‏ لام التعليل‏.‏ وبعضهم يسميها لام البيان‏.‏ وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى ‏(‏عن‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ مستأنفة للتوبيخ والإنكار، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر‏.‏ والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء‏.‏ ولذلك كان مفعول ‏{‏أتقولون‏}‏ محذوفاً لدلالة الكلام عليه وهو ‏{‏إنّ هذا لسحر مبين‏}‏ فالتقدير‏:‏ أتقولون هذا القول للحق لمَّا جاءكم‏.‏ وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قُلتم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَيَّت طائفة منهم غير الذي تقول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 81‏]‏‏.‏

ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحراً ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيراً لهم، لأنهم كانوا ينوّهون بشأن السحر‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏ولا يفلح الساحرون‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحراً لما شنع حال الساحرين، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

الكلام على جملة‏:‏ ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏ مثل الكلام على جملة‏:‏ ‏{‏قال موسى أتقولون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 77‏]‏‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أجئتنا‏}‏ إنكاري، بنَوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى‏.‏ وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما‏.‏

و ‏{‏تلْفِتَنَا‏}‏ مضارع لَفَتَ من باب ضرَب متعدياً‏:‏ إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه‏.‏ والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة‏.‏ يقال‏:‏ التفت‏.‏ وهو هنا مستعمل مجازاً في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلاً لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة‏.‏

وقد جمعت صلة ‏{‏ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها‏.‏ واختير التعبير ب ‏{‏وَجدنا‏}‏ لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها، وذلك مما يكسبهم تعلقاً بها، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقاً بها تبعاً لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته‏.‏

وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مقتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 53، 54‏]‏، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفساداً ‏{‏قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏‏.‏ والإتيان بحرف ‏(‏على‏)‏ للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها‏.‏

وعطف ‏{‏وتكون لكما الكبرياء‏}‏ على الفعل المعلَّل به، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئهما إليهم بما جاءوا به، أي أنهما يحاولان نفعاً لأنفسهما لا صلاحاً للمدعوين، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة‏.‏

والكبرياء‏:‏ العظمة وإظهار التفوق على الناس‏.‏

والأرض‏:‏ هي المعهودة بينهم، وهي أرض مصر، كقوله‏:‏ ‏{‏يريد أن يخرجكم من أرضكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضراً فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين‏.‏ وإنَّما شرّكوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظاً لنفسه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما نحن لكما بمؤمنين‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏أجئتنا‏}‏‏.‏ وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين‏.‏ وتقديم ‏{‏لكما‏}‏ على متعلَّقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما‏.‏ فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم‏.‏

وصيغت جملة‏:‏ ‏{‏وما نحن لكما بمؤمنين‏}‏ اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكُما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏قالوا إنّ هذا لسحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏، فهذه الجملة في حكم جواب ثان لحرف ‏(‏لَما‏)‏ حكي أولاً ما تلقَّى به فرعون وملؤُه دعوة موسى ومعجزتَه من منع أن يكون ما جاء به تأييداً من عند الله‏.‏ ثم حُكي ثانياً ما تلقى به فرعون خاصةً تلك الدعوةَ من محاولة تأييد قولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا لسحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏ ليثبتوا أنهم قادرون على الإتيان بمثلها مما تَحصيل أسبابه من خصائص فرعون، لما فيه من الأمر لخاصة الأمة بالاستعداد لإبطال ما يخشى منه‏.‏

والمخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏إيتوني‏}‏ هم ملأ فرعون وخاصتُه الذين بيدهم تنفيذ أمره‏.‏

وأمر بإحضار جميع السحرة المتمكنين في علم السحر لأنهم أبصر بدقائقه، وأقدر على إظهار ما يفوق خوارق موسى في زعمه، فحضورهم مغن عن حضور السحرة الضعفاء في علم السحر لأن عملهم مظنة أن لا يوازي ما أظهره موسى من المعجزة فإذا أتوا بما هو دون معجزة موسى كان ذلك مروجاً لدعوة موسى بين دهماء الأمة‏.‏

والعموم في قوله‏:‏ ‏{‏بكل ساحر عليم‏}‏ عموم عرفي، أي بكل ساحر تعلمونه وتظفرون به، أو أريد ‏{‏بكل‏}‏ معنى الكثرة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فلما جاء السحرة‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏، عُطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة ‏{‏قال فرعون‏}‏ بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمِثل الشيء المأمور به، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقُب قوله‏:‏ ‏{‏ائتوني بكل ساحر‏}‏ هو إتيانهم بهم، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجله حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله‏:‏ ‏{‏جاء السحرة‏}‏ على طريقة الإيجاز‏.‏ والتقدير‏:‏ فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى‏.‏ والتعريف في ‏{‏السحرة‏}‏ تعريف العهد الذكري‏.‏

وإنما أمرهم موسى بأن يبتدئوا بإلقاء سحرهم إظهاراً لقوة حجته لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه، ولا سيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب، والتي يتطلَّب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خَيَّروا موسى بين أن يبتديء هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدئوا، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين‏.‏

وفعل الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ألقوا ما أنتم ملقون‏}‏ مستعمل في التسوية المرادِ منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين‏.‏

والإلقاء‏:‏ رمي شيء في اليد إلى الأرض‏.‏ وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض‏.‏ وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، وأنها يخيَّل من سحرهم أنها تسعى، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حياً‏.‏

و ‏{‏ما أنتم ملقون‏}‏ قصد به التعميم البدلي، أيّ شيء تلقونه، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم، وتهيئة للملأ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله‏.‏

ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الأيجي في كتابه «المواقف»‏.‏

وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى عليه السلام من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء، ليكونوا مثلاً للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يعرّج بالذّكر إلا على مقالة موسى عليه السلام حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربّه ووعده، وبأن العاقبة للحق‏.‏ وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى عليه السلام، ولأجل هذا لم يذكر مفعول ‏{‏ألقوا‏}‏ لتنزيل فعل ‏{‏ألقوا‏}‏ منزلة اللازم، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله‏.‏

ومعنى ‏{‏جئتم به‏}‏ أظهرتموه لنا، فالمجيء قد استعمل مجازاً في الإظهار، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه، فالملازمة عرفية‏.‏ وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلِّهم قد أقبلوا من مدن عديدة، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو‏:‏ جاء بكذا، فإنه وإن استقام في نحو ‏{‏وجاءوا على قميصه بدَم كذب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏ لا يستقيم في نحو ‏{‏إنّ الذين جَاءوا بالإفك‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجَعْللِ ‏{‏ما جئتم‏}‏ مسنداً إليه دون أن يجعل مفعولاً لفعللِ ‏{‏سيبطله‏}‏، وبجَعْله اسماً مُبهماً، ثُم تفسيره بجملة ‏{‏جئتم به‏}‏ ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر، وهو جملة ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ ثم مَجيء ضمير السحر مفعولاً لفعل ‏{‏سيبطله‏}‏، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكَّن في أذهان السامعين فَضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏السحر‏}‏ قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة ‏(‏ال‏)‏، فتكون ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما جئتم به‏}‏ اسم موصول، والسحرُ عطفَ بيان لاسم الموصول‏.‏ وقرأه أبو عمرو، وأبو جعفر ‏{‏آلسحر‏}‏ بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية، فتكون ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما جئتم به‏}‏ استفهامية ويكون ‏(‏آلسحرَ‏)‏ استفهاماً مبيناً لِ ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية‏.‏

وهو مستعم في التحقير‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون‏.‏

و ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ خبر ‏(‏ما‏)‏ الموصولة على قراءة الجمهور، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ زيادة في إلقاء الرّوع في نفوسهم‏.‏

وإبطاله‏:‏ إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله، وقد حصل ذلك العلم لموسى عليه السلام بطريق الوحي الخاص في تلك القضية، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية، وهي مدلول ‏{‏إن الله لا يصلح عملَ المفسدين‏}‏‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏ معترضة، وهي تعليل لمضمون جملة ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح‏.‏ وتعريف ‏{‏المفسدين‏}‏ بلام الجنس، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليُعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين، وإضافة ‏{‏عمل‏}‏ إلى ‏{‏المفسدين‏}‏ يؤذن بأنه عمل فاسد، لأنه فعل مَنْ شأنُهم الإفساد فيكون نسجاً على منوالهم وسيرة على معتادهم، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده‏.‏ وليس المراد نفي تصييره صالحاً، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحاً حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح، فإذا نفى الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنَها، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل‏.‏

ولما قدم قوله‏:‏ ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ عُلم أن المراد من نفي إصلاحه تسليط أسباب بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُبطلَ الباطلَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 8‏]‏ أي يظهرَ بطلانه‏.‏

وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا ءالة فيما تأمرهم السحرة، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلاً‏.‏ أما السحرة الذين خاطبهم موسى عليه السلام فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ويُحق الله الحق‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ أي سيبطله ويحق الحق، أي يثبت المعجزة‏.‏

والإحقاق‏:‏ التثبيت‏.‏ ومنه سمِّي الحق حقاً لأنه الثابت‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم‏.‏ والباء في ‏{‏بكلماته‏}‏ للسببية‏.‏

والكلمات‏:‏ مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه‏.‏ وهي استعارة رشيقة، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم، وعلى علمه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولو كره المجرمون‏}‏ في موضع الحال، و‏(‏لو‏)‏ وصلية، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يُظن فيه تخلف حكم ما قبلها، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه‏.‏ وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم‏.‏

وأراد ‏(‏بالمجرمين‏)‏ فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضاً بهم‏.‏ وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول‏:‏ وإن كرهتم أيها المجرمون عدولاً عن مواجهتهم بالذم، وقوفاً عند أمر الله تعالى إذ قال له‏:‏ ‏{‏فقولا له قولاً ليناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك‏.‏ وهذا بخلاف مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له‏:‏ ‏{‏قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم، وموسى عليه السلام كان في ابتداء الدعوة‏.‏ ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم، وموسى كان محاولاً فرعونَ وملأه أن يؤمنوا، فكان في مقام الترغيب باللين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

تفريع على ما تقدم من المحاورة، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازاً‏.‏ والتقدير‏:‏ تفرع على ذلك تصميم على الإعراض‏.‏

وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامُها ما ألقوه من سحرهم، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة‏.‏

وفعل ‏{‏آمن‏}‏ أصله ‏(‏أَأْمن‏)‏ بهمزتين‏:‏ إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة، والثانية همزة مزيدة للتعدية، أي جعله ذَا أمانة، أي غير كاذب فصار فعل ‏{‏آمن‏}‏ بمعنى صدّق، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين ‏(‏آمن‏)‏ بمعنى صدّق من الأمانة وبين ‏(‏آمن‏)‏ بمعنى جَعله في أمن، أي لا خوف عليه منه‏.‏

وهذه اللام سماها ابنُ مالك لامَ التبيين وتبعه ابن هشام، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل ‏(‏آمن‏)‏ بمعنى صدّق دفعُ أن يلتبس بفعل ‏(‏آمنه‏)‏ إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك‏}‏ في سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏‏.‏

وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدّق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏‏.‏

والذرية‏:‏ الأبناء وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ذُرية بعضها من بعض‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 34‏]‏‏.‏ أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذٍ‏.‏

و ‏(‏على‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على خوف من فرعون‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ‏(‏ذرية‏)‏، أي في حال خوفهم المتمكن منهم‏.‏ وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خَوفهم من فرعون‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم آمنوا عند ظهور معجزته، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار‏.‏ أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء، كما يُقال‏:‏ الغلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله‏:‏ ‏{‏اذهبا إلى فرعون إنه طغى‏}‏

‏[‏طه‏:‏ 43‏]‏ فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر‏.‏

و ‏(‏الملأ‏)‏ تقدم آنفاً في هذه القصة، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذوهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها‏.‏

و ‏(‏الفتن‏)‏ ادخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏ فهذا وجه تفسير الآية‏.‏

وجملة‏:‏ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين‏}‏ في موضع الحال فهي عطف على قوله‏:‏ ‏{‏على خوف من فرعون‏}‏ وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد، فبعد أن أثنى عَليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم، ومن مَلئهم، أي قومهم، وهو خوف شديد، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسةِ قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفراً منهم، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور، ومَن هذه حالته لا يزَعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ للاهتمام بتحقيق بطش فرعون‏.‏

والعلو‏:‏ مستعار للغلبة والاستبداد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والإسراف‏:‏ تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل، فهو تجاوز مذموم، وأشهر موارده في الإنفاق، ولم يذكر متعلَّق الإفراط فتعيَّن أن يكون إسرافاً فيما عُرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من المسرفين‏}‏ أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال‏:‏ وإنه لَمُسرف لما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضللتُ إذن وما أنا من المهتدين‏}‏ في ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة ‏{‏وقال فرعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 79‏]‏، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏‏.‏ والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم، وأمْرُ مَن عداهم الذين خاف ذريتُهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يُجبِّنوا أبناءهم، وأن لا يخشوا فرعون، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إن كنتم آمنتم بالله حقاً كما أظهرتْه أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له‏.‏

وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهابَ قلوبهم بجعل إيمانهم معلقاً بالشرط محتمل الوقوع، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم، وإنما جَعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتَهم، فلا تغتفر فيها التقية حينئذٍ‏.‏ وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال، وعمار، وأبي بكر، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

فتقديم المجرور على متعلقه في قوله‏:‏ ‏{‏فعليه توكلوا‏}‏ لإفادة القصر، وهو قصر إضافي يفسره قوله‏:‏ ‏{‏على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون‏.‏

والتوكلُ‏:‏ تقدم آنفاً في قصة نوح‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن كنتم مسلمين‏}‏ شرط ثان مؤكد لشرط ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام، ومبين أيضاً للشرط الأول، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق، فَحصَل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر‏.‏

وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط، والإيمان‏:‏ تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي، ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإسلام، والإسلامُ‏:‏ النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإيمان، فالإيمان انفعال قلبي نفساني، والإسلام عمل جسماني، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة، وإذ لا يكون القول حقاً إلا إذا وافق ما في النفس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏

‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقد ورد ذلك صريحاً في حديث سؤال جبريل في «الصحيحين»‏.‏

وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين‏.‏ ومن ثم كان قوله‏:‏ ‏{‏فعليه توكلوا‏}‏ جواباً للشرطين كليهما‏.‏ أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول‏.‏ هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام‏.‏

وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيئهم مسرعاً بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة، وإلى عقد العزم على التوكل على الله، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة ‏{‏على الله توكلنا‏}‏ مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى‏.‏

وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافاً للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير معطوفة، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة‏.‏

ثم ذيَّلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم منه أن يقيهم ضر فرعون، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم‏:‏ لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامةُ الكفرة ويظنون أن دينهم الحق‏.‏

والفتنة‏:‏ تقدم تفسيرها آنفاً‏.‏ وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر، والكفر فتنة‏.‏ والفتنة مصدر‏.‏ فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة، فتعدية فعل ‏{‏تجعلنا‏}‏ إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين‏.‏

ووصفوا الكفار ب ‏{‏الظالمين‏}‏ لأن الشرك ظلم، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم‏:‏ ظلم أنفسهم، وظلم الخلائق، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين، أي من بطشهم وإضرارهم‏.‏

وزيادة ‏{‏برحمتك‏}‏ للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وذكر لفظ القوم في قوله‏:‏ ‏{‏للقوم الظالمين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من القوم الكافرين‏}‏ للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة، وفي هذه السورة غير مرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وقال موسى يا قوم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، ويجوز أن يكون عطفَ قصة على قصة، أي على مجموع الكلام السابق، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار لقصة موسى وقومه‏.‏

ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومُؤَازره‏.‏

والتبَوُّؤ‏:‏ اتخاذ مكان يسكنه، وهو تفعل من البَوْء، أي الرجوع، كأنّ صاحب المسكن يُكلف نفسه الرجوع إلى محل سَكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُبَوّئ المؤمنين مَقاعد للقتال‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏‏.‏ فمعنى تَبَوّءا لقومكما‏}‏ اجعلا قومكما متبوئينَ بيوتاً‏.‏

وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون عليهما السلام على طريقة المجاز العقلي، إذ كانا سبب تَبَوّؤ قومهما للبيوت‏.‏ والقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لقومكما‏}‏ إذ جعل التبوؤ لأجل القوم‏.‏

ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به‏.‏ وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض ‏(‏جَاسان‏)‏ قرب مدينة ‏(‏منفيس‏)‏ قاعدة المملكة يومئذٍ في جنوب البلاد المصرية، كما بيناه في سورة البقرة، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها‏.‏

واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذٍ‏.‏ فقيل‏:‏ أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوّله وقوعُ قوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ عقبه‏.‏ وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريباً بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت‏.‏ وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضاً لإطلاق البيوت، وكونها بمصر‏.‏

فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في ‏(‏جاسان‏)‏ قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج‏:‏ إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أولُ ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيداً بعد خروجهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها تجعلونها مفتوحة إلى القبلة‏.‏

قاله ابن عطية عن ابن عباس‏.‏

والقِبلة‏:‏ اسم في العربية لجهة الكعبة‏.‏ وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم، فيكون أمرُ بني إسرائيل يومئذٍ جارياَ على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة‏.‏

والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة

والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة‏:‏ إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال‏.‏

وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ كانت الكعبة قبلة موسى‏.‏ وعن الحسن‏:‏ كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء‏.‏ وهذا التفسير يلائم تركيب ‏{‏اجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه‏.‏

وأسند فعل ‏{‏اجعلوا‏}‏ إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة‏.‏

وأمْرهم بإقامة الصلاة، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعاً لإبراهيم عليه السلام وأبنائه‏.‏ والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم‏.‏

وعَطْفُ جملة‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ربنا لا تجعلنا فتنة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 85‏]‏ فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله‏:‏ ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة‏.‏ وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومَن معه من أرض مصر‏.‏ فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى عليه السلام على ربه بأن استجاب له دعاءه، وأنفذ برسالته مُراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد‏.‏

ومهَّد موسى لدعائه تمهيداً يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه، فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلولَ العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان‏.‏

ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغرياً لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحاً لهم وتطلباً لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم، ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال‏.‏

وافتتح الدعاءُ بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء‏.‏ ونودي الله بوصف الربوبية تذللاً لإظهار العبودية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً‏}‏ توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏‏.‏ ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه‏.‏

فاقتران الخبر بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّك آتيت فرعون‏}‏ الخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار‏.‏

وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏‏.‏ والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة‏.‏ ونُقل ذلك عن نحاة البصرة‏:‏ الخليل وسيبويه، والأخفش، وأصحابهما، على نحو اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علةً فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره، فالمعنى‏:‏ إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً فضلوا بذلك وأضلوا‏.‏

وللمفسرين وجوه خمسة أخرى‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون للتعليل، وأن المعنى‏:‏ إنك فعلت ذلك استدراجاً لهم، ونسب إلى الفراء، وفسر به الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ أن الكلام على حذف حرف، والتقدير‏:‏ لئَلا يضلوا عن سبيلك أي فضلُّوا‏.‏ حكاه الفخر‏.‏

الثالث‏:‏ أن اللام لام الدعاء‏.‏ روي هذا عن الحسن‏.‏ واقتصر عليه في «الكشاف»‏.‏ وقاله ابن الأنباري‏.‏ وهو أبعد الوجوه وأثقلها‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكون على حذف همزة الاستفهام‏.‏ والتقدير‏:‏ أليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالاً تقريراً للشنعة عليهم، قاله ابن عطية‏.‏

ويكون الاستفهام مستعملاً في التعجب، قاله الفخر‏.‏

الخامس‏:‏ تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك، قاله الفخر‏.‏ وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها‏.‏

والزينة‏:‏ ما يتزين به الناس، وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا، كالحلي والجواهر والمباني الضخمة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏زيَّن للناس حب الشهوات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والأموال‏:‏ ما به قوام المعاش، فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ، وتعظّم شأنهم في أنظار قومهم، والأموال يسخِّرون بها الرعيَّة لطاعتهم، وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاعية العيش ما سار ذكره في الآفاق‏.‏ وظهرت مُثل منه في أهرامهم ونواويسهم‏.‏

وأعيد النداء بين الجملة المعلِّلة والجملة المعلَّلة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قَصد الاعتراض‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب ‏{‏ليَضلوا‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بضم الياء على معنى سعيهم في تضليل الناس‏.‏

والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضَلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلاً لغيرهم، وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم‏.‏ وقد علمت آنفاً أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس‏.‏

وأعيد النداء ثالثَ مرة؛ لزيادة تأكيد التوجه والتضرع‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏اطمس على أموالهم‏}‏ هي المقصود من هذا الكلام، والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف‏.‏

والطمْس‏:‏ المَحْو والإزالة‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن نَطْمس وجوهاً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء، ويُعدى بحرف ‏(‏على‏)‏ كما هنا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لطمسنا على أعينهم‏}‏ في سورة ‏[‏يس‏:‏ 66‏]‏‏.‏ ولعل تعديته ب ‏(‏على‏)‏ لإرادة تمكن الفعل من المفعول، أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة، فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها‏.‏

وأما قوله‏:‏ واشدد‏}‏ فأحسب أنه مشتق من الشد، وهو العسر‏.‏ ومنه الشدة للمصيبة والتحرج، ولو أريد غير ذلك لقيل‏:‏ واطبع، أو واختم، أو نحوهما، فيكون شدّ بمعنى أدخل الشدّ أو استعمله مثل جَد في كلامه، أي استعمَل الجد‏.‏

وحرف ‏(‏على‏)‏ مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة‏.‏ والمعنى‏:‏ أدخل الشدة في قلوبهم‏.‏

والقلوب‏:‏ النفوس والعقول‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر‏.‏ وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك، فعجَّلوا بالنَّوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربَّه منيباً إليه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏اشدد‏}‏ من الشد، وهو الهجوم‏.‏

يقال‏:‏ شد عليه، إذا هجم، وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه، تمثيلاً لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يَشُد على عدوّه ليقتله وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأجْلب عليهم بخيلك ورجلك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏ أي طوّعهم لحكمك وسَخّرهم‏.‏

وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء، أي افعَلْ بهم ذلك ليؤمنوا‏.‏ والفعل منصوب بأن مضمرة إضماراً واجباً بعد فاء السببية‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب‏}‏ في قوة أن يقال‏:‏ فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قَبْل ذلك‏.‏

وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان، إلى إيراده بصيغة نفي مُغيّا بغاية هي رؤية العذاب سلوكاً لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية، وكل ذلك علاجٌ بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تُجْد فيهم وسائل الحجة، فقال‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ أي أن شأنهم ذلك، وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيانَ علة الدعاء عليهم بذلك‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم‏.‏

والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى، فتلك هي مصب الجواب‏.‏ وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال، ولا يعسر معه المنال، ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فلا يومنوا‏}‏ الخ عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏ وجملة الدعاء بينهما معترضة‏.‏

والمعنى‏:‏ ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم‏.‏ وهذا تأويل المبرد والزجاج‏.‏ والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس‏.‏

والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل، أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

جواب من الله لكلام موسى جرى على طريقة حكاية المحاورات أنْ لا تعطف جملها كما تقدم غير مرة‏.‏

وافتتاح الجملة ب ‏{‏قد‏}‏ والفعل الماضي يفيد تحقيق الحصول في المستقبل، فشبه بالمضي‏.‏

وأضيفت الدعوة إلى ضمير التثنية المخاطب به موسى وهارون وإن كانت الدعوة إنما حكيت عن موسى عليه السلام وحدَه لأن موسى عليه السلام دعا لما كان هارون مواطئاً له وقائلاً بمثله لأن دعوتهما واحدة‏.‏ وقيل‏:‏ كان موسى عليه السلام يدعو وهارون عليه السلام يؤمّن‏.‏

ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربّه أن يسلب عن فرعون وملئه النعم، ويواليَ عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومةَ دعوة موسى وتنحطّ غلواؤهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنينَ ونقصصٍ من الثمرات لعلهم يذّكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏‏.‏

وفرع على إجابة دعوتهما أمرهما بالاستقامة، فعلم أن الاستقامة شكر على الكرامة فإن إجابة الله دعوة عبده إحسانٌ للعبد وإكرام وتلك نعمة عظيمة تستحق الشكر عليها وأعظم الشكر طاعة المنعم‏.‏

وإذ قد كان موسى وهارون مستقيمين، وناهيك باستقامة النبوءة كان أمرهما بالاستقامة مستعملاً في الأمر بالدوام عليها‏.‏ وأعقب حثهما على الاستقامة بالنهي عن اتباع طريق الذين لا يعلمون وإن كان ذلك مشمولاً للاستقامة تنبيهاً على توخي السلامة من العدول عن طريق الحق اهتماماً بالتحذير من الفساد‏.‏

والاستقامة‏:‏ حقيقتها الاعتدال، وهي ضد الاعوجاج، وهي مستعملة كثيراً في معنى ملازمة الحق والرشد، لأنه شاع تشبيه الضلال والفساد بالاعوجاج والالتواء‏.‏ وقيل للحق‏:‏ طريق مستقيم‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، فكان أمرهما بالاستقامة جامعاً لجميع خصال الخير والصلاح‏.‏

وفي حديث أبي عَمْرَةَ الثقفي قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك‏.‏ قال‏:‏ قل‏:‏ آمنت بالله ثم استقم‏.‏ ومن الاستقامة أن يستمرا على الدعوة إلى الدين ولا يضجرا‏.‏

والسبيل‏:‏ الطريق، وهو هنا مستعمل للسيرة والعمل الغالب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبعان‏}‏ قرأه الجمهور بتشديد النون مكسورة‏.‏ وهما نونان‏:‏ إحداهما نون المثنى والأخرى نون التوكيد‏.‏ وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر ‏{‏ولا تتبعان‏}‏ بنون خفيفة مكسورة‏.‏ وهي نون رفع المثنى لا نون التوكيد، فتعين أن تكون ‏(‏لا‏)‏ على هاته القراءة نافية غير ناهية، والجملة في موضع الحال والواو واو الحال، لأن جملة الحال المضارعة المفتتحة بحرف نفي يجوز اقترانها بالواو وعدمُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

معطوفة على جملة ‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَتَبَوَّءا لقومكما بمصر بيوتاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 87‏]‏ عطف الغرض على التمهيد، أي، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر‏.‏

وجاوزنا، أي قطعنا بهم البحر، والباء للتعدية، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر‏.‏ وتقدم نظيره في سورة الأعراف ‏[‏138‏]‏‏.‏ ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمُرون منها‏.‏

و ‏{‏أتبعهم‏}‏ بمعنى لحقهم‏.‏ يقال‏:‏ تَبعه فأتْبَعَه إذا سار خلفه فأدركه‏.‏ ومنه ‏{‏فأتبعَه شهابٌ ثاقب‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أتبع مُرادف تبع‏.‏

والبغي‏:‏ الظلم، مصدر بغى‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والإثم البغيَ بغير الحق‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والعَدْو‏:‏ مصدر عدا‏.‏ وهو تجاوز الحد في الظلم، وهو مسوق لتأكيد البغي‏.‏ وإنما عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا‏.‏

والمعنى‏:‏ أن فرعون دخل البحر يتقصّى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنْعَهم من السفر، وإنما كان اتباعه إياهم ظلماً وعُدواناً إذ ليس له فيه شائبة حق، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء، فإن لذي الوطن حقاً في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له، وللإنسان أن يتخلى عن حقه، فلذلك كان الخَلع في الجاهلية عقاباً، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي، وكان الإمساك بالمكان عقاباً، ومنه السجن، فليس الخروج من الوطن طوعاً بعُدوان‏.‏ فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشدّ للحاق بهم لردهم كرهاً كان في ذلك ظالماً معتدياً، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم‏.‏

وحتى‏}‏ ابتدائية لوقوع ‏{‏إذا‏}‏ الفُجائية بعدها‏.‏ وهي غاية للإتباع، أي استمر إتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه، كل ذلك لا يفتأ يجدّ في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده، فغرقوا وهلك فرعون غريقاً، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من ‏(‏إذا‏)‏، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذففٍ‏.‏ والتقدير‏:‏ حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الإتباع، وليست الغاية هي قوله‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ وإن كان الأمران متقارنين‏.‏

والإدراك‏:‏ اللحاق وانتهاء السير‏.‏ وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجياً بهول البحر ومصارعته الموج، وهو يأمل النجاة منه، وأنه لم يُظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت، وذلك لتصلبه في الكفر‏.‏

وتركيب الجملة إيجاز، لأنها قامت مقام خمس جمل‏:‏

جملة‏:‏ تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق‏.‏

وجملة‏:‏ تفيد أنه لم يلحقهم‏.‏

وهاتان مستفادان من ‏(‏حتى‏)‏، وهاتان منَّة على بني إسرائيل‏.‏

وجملة‏:‏ تفيد أنه غمره الماء فغرق، وهذه مستفادة من قوله‏:‏ ‏{‏أدركه الغرق‏}‏ وهي عقوبة له وكرامة لموسى عليه السلام‏.‏

وجملة‏:‏ تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان‏.‏ وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إذا أدركه الغرق‏}‏‏.‏ وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية‏.‏

وجملة‏:‏ تفيد أنه مَا آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله‏.‏ وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى‏.‏

وقد بُني نظم الكلام على جملة‏:‏ ‏{‏إذا أدركه الغرق‏}‏، وجعل ما معها كالوسيلة إليها، فجعلت ‏(‏حتى‏)‏ لبيان غاية الإتْبَاع وجعلت الغاية أن قال‏:‏ ‏{‏آمنتُ‏}‏ لأن إتباعه بني إسرائيل كان مندفعاً إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه، فكانت غايتُه إيمانَه بحقهم‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏الذي آمنت به بنو إسرائيل‏}‏ ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هُدوا إليه، فجعل الصلة طريقاً لمعرفته بالله، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر، ولذلك احتاج أن يزيد ‏{‏وأنا من المسلمين‏}‏ لأنه كان يسمع من موسى دعوتَه لأنْ يكون مسلماً فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف، ولذلك لم يقل‏:‏ أسلمتُ، بل قال أنا من المسلمين، أي يلزمني ما التزموه‏.‏ جاء بإيمانه مجملاً لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله‏.‏

وسيأتي قريباً في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏آمنتُ أَنه‏}‏ بفتح همزة ‏(‏أنه‏)‏ على تقدير باء الجر محذوفة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الهمزة على اعتبار ‏(‏إنّ‏)‏ واقعة في أول جملة، وأنّ جملتها بدل من جملة ‏{‏آمنت‏}‏ بحذف متعلق فعل ‏{‏آمنت‏}‏ لأن جملة البدل تدل عليه‏.‏